وابتهج اعضاء الوفد، وقال السيد عبدالرحمن المهدي إلى المفتي (جد الفتى): إن ابنك سوف يكون له شأن عظيم باذن الله. وتتعاقب السنون، والبذرة المخصبة تنمو، وتعطي ثمرة ناضجة، ويشتد ساعد الفتى، ويشمخ، وينادي باسم (الزعيم اسماعيل الازهري، رئيس وزراء السودان) ويعلن أنه في اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر من عام 1955م سوف يعلن استقلال السودان من داخل البرلمان، وينزعج نواب المعارضة ويهرع بعضهم إلى سيادة الامام عبدالرحمن المهدي، مستنكرين على الزعيم الازهري شرف اعلانه استقلال السودان، ولكن السيد المهدي قد ابتهج وقال لنواب المعارضة (إن السيد اسماعيل الازهري زعيم من زعماء الاستقلال، وترجع معرفتي به منذ ان كان طالباً ورافقنا الى لندن، وما عليكم إلا ان تقفوا معه، وتشدوا من ازره وهو يعلن استقلال السودان).
ولابد من وقفة هنا، نمعن النظر، ونحكم العقل، فالمصريون والبريطانيون معاً، قد استشهد بمدافعهما الآلاف من المجاهدين السودانيين، فهل يقبل العقل ان يطرد جيش، ويستبقى الجيش الآخر؟
إن السياسة لها موازناتها، فالزعيمان الازهري ويحيى الفضلي وزملاؤهما، بجانب السيد عبدالرحمن المهدي، والسيد عبدالله الفاضل المهدي، قد كانوا يحملون فكرا واحداً في يوم من الايام، ولكن بسفور الطائفتين الدينيتين، وظهورهما في الحقل السياسي، تؤازر احداهما الشوقيين، وتؤيد الطائفة الاخرى الفيليين، وتخرج تعابير التنايذ من الأفواه، تفرق الشمل، وانفض سامر نادي الخريجين بأم درمان، وبقى الازهري في نادي الخريجين كالسيف وحده، وانضم إليه مؤازرون عشرة من الخريجين، الشبان، وطلبوا إليه ان يصبح رئيسا لهم، واسسوا معاً (حزب الاشقاء) الذي التفت حوله الجماهير، وخاضت به معركة البرلمان، حيث نال 52 مقعداً برلمانيا بينما نال حزب المعارضة الكبير 22 مقعداً، وكانت الاحزاب الاتحادية قد توحدت تحت اسم الحزب الوطني الاتحادي، متخذة الزعيم الازهري رئيسا للحزب.
وها هو ذا الزعيم الازهري يقول عقب فوز الحزب الوطني الاتحادي بنتيجة الانتخابات لأول برلمان وطني يخلف حكومة الاستعمار: (.. لقد كانت انظار العالم كله مسلطة على هذه الرقعة من العالم، وكان العالم يرقب مسلك الشعب السوداني ليحكم على اهليته للحرية، وصلاحيته ليتخذ مكانه بين شعوب العالم المتحرر، ويدخل في موكب الحضارة.
واليوم وقد تحلى الشعب بالمسلك الكريم، فإني اتوجه بهذا النداء لجميع المواطنين ليظلوا مستمسكين بهذا الروح العظيم، فلا تستخف بمن انتصر نشوة الظفر، فيصعر خده، ولاييأس من انهزم فيظن بنفسه العجز عن تأديه واجبه، فلا نصر، ولاهزيمة ما دمنا جميعاً ابناء وطن واحد نعمل لخيره، وعزته، وكرامته، ومجده، فالنصر للوطن، ولاهزيمة إلاّ للدخيل على الوطن). والدخيل على الوطن هو الاستعمار الذي افتتح سجناً كبيراً عقب الأحداث التي قام بها مجاهدو جمعية الاتحاد، وجماعة اللواء الابيض، وطلاب الكلية الحربية، وقد ازعجوا الاستعمار وقرر اغلاق الكلية الحربية بعد محاكمة ابطالها، واستشهد البطل على عبداللطيف، والبطل عبدالفضيل الماظ، والبطل عبيد حاج الامين، وغيرهم من شهداء الاستقلال والحرية. وكان في الرماد وميض نار، وحتى لاتخبو الجذوة فقد اشعلها من جديد طلاب كلية غردون مواصلة لاحداث عام 1924، ففي العام 1931م ازعج الاستعمار طلاب كلية غردون وكانت قمة التعليم في السودان، فأغلق الاستعمار ابواب التعليم في وجه عشرة من الطلاب باعتبار انهم زعماء الاضراب، وقد دخلوا التاريخ من اوسع ابوابه وهم المجاهدون أحمد مختار، وعبدالماجد محمد عبدالماجد، وخليل صابر، وعبداللطيف الخليفة، وصلاح الدين حسين راسخ، وماهر محمد الامين، وعبدالرحيم موسى، وصديق عبدالقادر، وقيلي أحمد عمر، وعبدالعزيز محمد. وكان هؤلاء قد تم اتهامهم بتحطيم صور ملك الانجليز، وبقية رموز البريطانيين. وكان الطالب (الصديق عبدالرحمن المهدي) قد قام بتحطيم صورة مجسمة لملك بريطانيا، وقد تصدرت مائدة الطعام، كما نال هذا الشرف كثير من الطلاب.
وهكذا تم تشريد كثير من الطلاب، وتم حرمانهم من العمل في دواوين الحكومة، والشركات الاجنبية، وكانت الوظيفة عنصرا مهما، ومورد الرزق للأسرة الممتدة، وبالتالي فقد كان من يفتقد المنصب الحكومي فقد افتقد كل شئ، لأن التعليم حينئذٍ قد كان من أجل المنصب الحكومي وليس لمجرد تلقى العلم.